خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 1 من شوال 1444هـ - الموافق 21 /4 / 2023م
مَاذَا بَعْدَ رَمَضَانَ؟
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَرَ عِبَادَهُ بِدَوَامِ الطَّاعَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَبَشَّرَ الَّذِينَ قَالُوا: رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا بِالْفَوْزِ وَالْكَرَامَةِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أَبْتَغِي بِهَا النَّجَاةَ والْفَلَاحَ وَالسَّلَامَةَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، عَبَدَ مَوْلَاهُ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ بِلَا ضَجَرٍ وَلَا سَآمَةٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَافُوا رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَعَمِلُوا لِيَوْمٍ تَزْدَادُ فِيهِ الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ اتَّقُوا اللهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَاجْتَنِبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى طَاعَتِهِ فِي كُلِّ زَمَنٍ؛{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 70، 71].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ فَارَقَنَا رَمَضَانُ، شَهْرُ الصَّبْرِ وَالْإِيمَانِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، فَارَقَنَا بَعْدَ أَنْ سَطَعَ جَمَالُهُ، وَعَظُمَ اسْتِقْبَالُهُ، وَاشْتَاقَتْ لَهُ قُلُوبُ الْمُتَّقِينَ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَكَذَا هِيَ أَيَّامُ الْهُدَى وَلَيَالِي التُّقَى، تَأْتِي عَلَى مَهَلٍ وَتَنْقَضِي عَلَى عَجَلٍ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
إِنَّ اللَّيَالِـــــيَ لِلْأَنَــامِ مَنَاهِـــلٌ تُطْوَى وَتُنْشَرُ دُونَهَا الْأَعْمَارُ
فَقِصَارُهُنَّ مَعَ الْهُمُومِ طَوِيلَةٌ وَطِوَالُهُنَّ مَعَ السُّرُورِ قِـصَارُ
أَجَلْ، لَقَدْ فَارَقَنَا رَمَضَانُ وَوَدَّعْنَا شَهْرَ الصَّبْرِ وَالْإِيمَانِ؛ بَعْدَ أَنْ مَلَأَ لَيَالِيَنَا نُورًا بِالْقِيَامِ، وَأَسْعَدَ أَيَّامَنَا بَهْجَةً بِالصِّيَامِ، وَعَلَّمَنَا كَيْفَ نَنْتَصِرُ عَلَى النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْهَوَى، وَدَلَّنَا عَلَى سُبُلِ الرَّشَادِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْهُدَى.
وَالنَّاسُ فِي وَدَاعِ رَمَضَانَ فِئَتَانِ: فِئَةٌ حَزِنُوا عَلَى فِرَاقِهِ وَوَدَاعِهِ، وَبَكَوْا أَسًى عَلَى سُرْعَةِ ذَهَابِهِ وَانْقِضَائِهِ؛ لِمَا عَلِمُوا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَالْإِيمَانِ؛ وَلِمَا لَمَسُوهُ مِنَ الْبَرَكَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ، فَاتَّخَذُوهُ سُوقًا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَضَرَبُوا فِيهِ بِأَسْهُمِ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، وَكَيْفَ لَا يَحْزَنُونَ وَأَبْوَابُ الْجِنَانِ أُغْلِقَتْ بَعْدَ فَتْحِهَا، وَأَبْوَابُ النَّارِ فُتِحَتْ بَعْدَ غَلْقِهَا؟!.
وَفِئَةٌ أُخْرَى اسْتَثْقَلُوا صِيَامَهُ، وَاسْتَطَالُوا أَيَّامَهُ، فَلَمْ يَفْقَهُوا أَخْبَارَهُ، وَلَمْ يُدْرِكُوا أَسْرَارَهُ، وَأَرَادُوا التَّعَجُّلَ لِيَرْجِعُوا إِلَى سَابِقِ عَهْدِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُوبِقَاتِ، وَالزُّهْدِ بِمَوَاسِمِ الْخَيْرِ وَالْحَسَنَاتِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: هَنِيئًا لِمَنْ جَعَلَهُمُ اللهُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْمَقْبُولِينَ، وَجَبَـرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَسْرَ الْمَحْرُومِينَ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
لَئِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَدَّعَنَا وَانْقَضَى، وَلَئِنْ كَانَتْ قُلُوبُ الصَّالِحِينَ تَتَفَطَّرُ عَلَى مَا انْقَطَعَ مِنَ الزَّمَانِ الْفَاضِلِ وَمَضَى؛ فَإِنَّ مَوَاسِمَ الْخَيْرِ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَعَوَائِدَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا مُتَجَدِّدَةٌ، فَبَيْنَ أَيْدِينَا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ لَنَا عَلَى مَدَى السَّنَةِ؛ مَا يَزِيدُنَا تُقًى وَيُقَرِّبُنَا إِلَى اللهِ زُلْفَى؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
فَمَنْ تَأَسَّى عَلَى ذَهَابِ لَيَالِي الْهِمَّةِ وَالْقِيَامِ؛ فَلْيُبْشِرْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ الْقِيَامَ لِعِبَادِهِ فِي سَائِرِ الْعَامِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 16 - 18]. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلْإِثْمِ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ].
وَمِنْ أَجَلِّ الْأَعْمَالِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَرَائِضِ فِي جَمَاعَةٍ؛ فَإِنَّهَا نِعْمَتِ الْبِضَاعَةُ وَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ طَاعَةٍ!
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
عِبَادَ اللهِ:
وَمَنْ تَحَسَّرَ عَلَى انْقِضَاءِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ الصِّيَامَ فِي أَكْثَرِ الزَّمَانِ، فَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَسْتَقْبِلُ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَصِيَامُهَا بَعْدَ رَمَضَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ؛ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ؛ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَبَيْنَ أَيْدِينَا صِيَامُ الْعَشْرِ الأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الَّتِي لَا يَعْدِلُهَا عَمَلُ عَامِلٍ لِمَوْلَاهُ؛ إِلَّا مَنْ بَذَلَ رُوحَهُ وَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ].
وَمِنْهَا: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، وَكَذَا صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ. وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَلَا يَخْفَى ما لِصِيَامِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ؛ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَعَظِيمِ الْأَجْرِ.
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:
وَمَنِ اعْتَادَ فِي رَمَضَانَ الْبَذْلَ وَالْعَطَاءَ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ بِالسَّمَاحَةِ وَالسَّخَاءِ؛ طَلَبًا لِرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ وَالْأُجُورِ، وَحُبًّا فِي صَنَائِعِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ وَالشُّرُورِ؛ فَلْيُوَاظِبْ عَلَى صَنَائِعِ الْخَيْرِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، مِنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ؛ فَكُلُّ الزَّمَانِ وَقْتٌ لِلْعَمَلِ بِهَا، وَكُلُّ النُّفُوسِ تَحْتَاجُ لِلْفَوْزِ بِثَوَابِهَا؛{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } [المزمل: 20]
وَفَّقَنِيَ اللهُ وَإِيَّاكُمْ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، وَجَعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْفَلَاحِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ نَلْقَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ؛ يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
لَقَدْ عِشْنَا فِي رَمَضَانَ أَجْوَاءً إِيمَانِيَّةً، وَانْشَرَحَتْ صُدُورُنَا بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَتَخَلَّى عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْهِمَّةِ فِي الطَّاعَةِ، وَالنَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَمَا أَنْ يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ حَتَّى يَنْكِصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيُصِيبَهُ الْفُتُورُ بَعْدَ خِفَّةِ الطَّاعَاتِ عَلَيْهِ، فَتَرَاهُ يَرْجِعُ مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ إِلَى دُنُوِّهَا، وَمِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى الْكَسَلِ وَالتَّفْرِيطِ وَالْإِضَاعَةِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لِلْعَاقِلِ الَّذِي ذَاقَ طَعْمَ الْعِبَادَةِ وَلَذَّةَ الطَّاعَةِ وَارْتَدَى ثَوْبَ الْهِدَايَةِ؛ أَنْ يَطْعَمَ مَرَارَةَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، وَيَرْتَدِيَ بَعْدَهُ ثَوْبَ الضَّلَالِ وَالْغَوَايَةِ؟! فَبَئِسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ لَا يَعْرِفُونَ اللهَ إِلَّا فِي رَمَضَانَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر: 99]. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ).
وَلْيَحْذَرِ الْعَبْدُ الْغُرُورَ وَالْعُجْبَ بِعَمَلِهِ؛ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحُبُوطِ ثَوَابِ الْعَمَلِ، وَمَدْعَاةٌ لِلتَّوَاكُلِ وَالْفُتُورِ وَالْكَسَلِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [المؤمنون: 60] قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 61] [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْتَ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: «كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ هَمًّا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27].
وَلْيَسْتَمِرَّ الْمُؤْمِنُ فِي مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ تَعَالَى رَاضِيًا مَرْضِيًّا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
فَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ مِنْ صِفَاتِ الصَّالِحِينَ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ مِنْ خِصَالِ الْمُفْلِحِينَ، وَلَنْ يَعْدَمَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا تَوْفِيقًا وَنَجَاحًا، وَلَنْ يُحْرَمُوا فِي الْآخِرَةِ فَوْزًا وَفَلَاحًا؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت: 30، 31].
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أَيْ: أَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ وَالْعَمَلَ.
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ].
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ وَاغْفِرْ لَنَا تَقْصِيرَنَا وَإِهْمَالَنَا، وَاخْتِمْ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الْأَطْهَارِ وَصَحْبِهِ الْأَبْرَارِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمَا لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْعِيدَ عِيدَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ، وَبَهْجَةٍ وَحُبُورٍ، وَمُنَّ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالرُّقِيِّ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة